قصة اكتشاف خطأ اينشتاين إقرأ المزيد
العمق
من الأقوال التي تنسب لألبرت أينشتاين: (الشخص الذي لم يقع في أي خطأ هو الشخص الذي لم يجرب عمل أي شيء)، وحياة أينشتاين بصفته أحد عظماء العلم في القرن العشرين حافلة بالأعمال، لذلك لا يستغرب أن يقع في الأخطاء.
ولا يمنع حصول عالم على جائزة نوبل حول عمل معين أن يحصل عالم آخر لاحقا على نفس الجائزة في عمل ينقض ذلك العمل.
لذلك ليس المهم هو وقوع أينشتاين في الخطأ، لكن الأهم هو كيف أتبث العلماء وقوعه في الخطأ بعد سنين، وينالوا بذلك جائزة نوبل لسنة 2022.
فما هي قصة اكتشاف خطأ اينشتاين من طرف العلماء الثلاثة؟ وما هو هذا الخطأ؟ وكيف تم ذلك؟
التقرير التالي، حسب الجزيرة نت، يجيب عن هذه الأسئلة، وفق مقاربة تحاول إخراجه من عالم الكوانتوم وميكانيكا الكم المعقد إلى عالم الأمثلة البسيطة.
لعبة ذهنية بسيطة للبدء
هب أنك استيقظت يوما من النوم لا تذكر أي شيء، وجدت نفسك تجلس على كرسي أبيض، أمام طاولة بيضاء، في غرفة بيضاء تماما، مغلقة من كل الجوانب، على الطاولة توجد عُملة معدنية، وفي أحد الجدران بالأعلى يوجد مكبّر صوت وإلى جواره شاشة. قضيت وقتا في فهم ما يقع، لكنك لم تفلح في ذلك.
تمر دقائق قليلة، وبينما أنت جالس على كرسيك يتحدث أحدهم من مكبر الصوت قائلا: “أهلا بك، لقد أخطأت كثيرا في حياتك، وأنا هنا لأُخلِّصك من ذنوبك، سنلعب معا لعبة: في الغرفة المجاورة يجلس صديقك الأقرب مثلك تماما، وأمامه عُملة معدنية مماثلة، كل المطلوب منكما أن تقوما بـ”لف العُملة” للأعلى (رميها)، وحين تقع على الطاولة ستسجل قراءة، إما “ملك” (صورة) أو “كتابة”، ستنجو من اللعبة في حالة واحدة وهي حين تسجل عملتك وعملة صديقك في نفس اللحظة نفس القراءة، والشاشة ستعرض نتيجة صديقك بعد كل لفة، وأمامك 45 دقيقة”.
فورا على الشاشة يبدأ العد، لكنك لا تصاب بالقلق رغم أنك بالفعل تدرك أنك الآن في موقف شبيه بأبطال سلسلة أفلام “SAW”، فأنت تعرف أن القواعد الطبيعية لنظرية الاحتمالات تجعل من الطبيعي أن تتشابه بعض النتائج ويختلف البعض الآخر في حالات لف العُملة، وبذلك سوف تخرج سالما من اللعبة.
لكن حينما تبدأ اللعبة، وبعد خمسين مرة من اللف، يبدأ التوتر في التسرب إلى أعماقك، فنتائج كل مرة تختلف على الطاولتين، أما الرعب الحقيقي فسيبدأ بعد مئتي لفة، حيث لم يحدث -ولو مرة واحدة- أن تشابهت نتائج عُملتيكما، ستسأل نفسك: ما الذي يحدث؟ كيف ترتبط هاتان العُملتان معا بشكل متعاكس؟ بحلول نهاية الوقت أصبحت تعرف أن أحدهم يعبث بك وينوي قتلك.
من غير الطبيعي في حياتنا العادية أن تترابط الأشياء المتباعدة مع بعضها لحظيا، ومن دون أن نعرف كيف تترابط، لذلك شعرت بالغرابة فيما حدث بالمثال السابق، لكن بالنسبة إلى عالم ميكانيكا الكم، فإن ذلك الترابط ممكن، وهو مدهش في الوقت نفسه، ولهذا السبب تحديدا حصل الثلاثي جون إف. كلاوسر (John F. Clauser) (أميركا)، وأنطون زيلينغر (Anton Zeilinger) (النمسا)، وآلان أسبيه (Alain Aspect) (فرنسا) على جائزة نوبل في الفيزياء 2022 عن إنجازاتهم في نطاق ميكانيكا الكم، أو كما قالت لجنة نوبل: “عن تجاربهم على الفوتونات المتشابكة كموميا، وإثبات إمكانية خرق متباينة بيل، والريادة في علم المعلومات الكمومية”.
تشابك كمّي
لفهم الأمر دعنا نبدأ بالتعرّف إلى التشابك الكمّي (Quantum Entanglement). إحدى الخصائص الأساسية للجسيمات دون الذرية (أصغر من الذرة) هو الدوران أو اللف (Spin)، يشبه الأمر دوران الأرض حول نفسها، لكن ليس بالضبط؛ إنه فقط أقرب مثال نعرفه، مع فارق مهم وهو أن الأرض تدور لأنها دُفعت للدوران في بداية تكوُّن المجموعة الشمسية، أما دوران الجسيمات دون الذرية فهو خاصية جوهرية محددة لها، لا تدور لأن أحدهم دفعها للدوران، لكنها مستمرة دائما في ذلك، يشبه الأمر صوتك أو ضحكتك، إنه جزء من تركيبك البشري، وهكذا بالنسبة للجسيمات، لكل جسيم نمط دوران محدد لا يتغير أبدا. دوران الجسيم إما أن يكون للأعلى وإما للأسفل.
يُشير التشابك الكمّي إلى وجود ارتباط لحظي بين جسيمين دون ذريين، على أي مسافة بينهما، سواء وضعنا كل جسيم منهما (الفوتون مثلا) في غرفة مختلفة عن الآخر، أو حتى لو قررنا وضع كل جسيم منهما في أحد جانبَيْ مجرتنا درب التبانة، أو حتى حينما نضعهما في طَرفي الكون نفسه. سيحدث هذا التأثير لحظيا بينهما وكأن أحدهما -وهو تشبيه لغرض التقريب فقط- يعرف ما يدور بخلد الآخر.
حينما نقرأ دوران الجسيم “أ” في لحظة ما فإنه عند قراءة دوران الجسيم “ب” المتشابك معه كميا في اللحظة نفسها سوف تكون معاكسة، يحدث ذلك مهما كررنا التجربة، وبأي طريقة، وعلى أي عيّنة كمومية، كانت جزيئا، أو ذرة، أو رقائق فائقة التوصيل.
بالطبع يناقض ذلك أحد الأُسس الفيزيائية المهمة، وهو أنه لا يمكن لتأثير أن يتم بأسرع من سرعة الضوء، دعنا مثلا نفترض أن الشمس قد اختفت من الوجود في اللحظة التي تقرأ بها هذه الجملة، هنا على الأرض لن نشعر بالأمر إلا بعد 8 دقائق كاملة، لأن تأثير جذبها لنا لن يختفي فجأة، بل يحتاج إلى وقت مقداره سرعة الضوء بالحد الأقصى كي يحدث. في الفيزياء، يسمى ذلك بمبدأ المحلية (Locality).
الجسيم الذي يقرأ دورانا متعاكسا مع رفيقه الموجود في طرف المجرة الآخر يكسر ذلك المبدأ. لذلك تصوَّر أينشتاين أن التشابك الكمومي يجب أن يحوي ما سمَّاه بالمتغيرات الخفية (Hidden Variables)، أي مجموعة من الظروف غير المعروفة بالنسبة لنا التي تجعل النتائج تبدو وكأنها ذات تأثير لحظي، افترض أينشتاين في ورقة بحثية صدرت عام 1935 أن نظرية الكم ليست مكتملة، ينقصها شيء ما، هذا الشيء هو المتغيرات الخفية.
الجسيمات المخادعة
لفهم الأمر بصورة أسهل دعنا نفترض مثلا أن كلًّا من “عبد الرحمن” و”رهف”، وهما طفلان لم يتخطيا العاشرة بعد، قد ادَّعيا أنه يمكن لهما التواصل مع بعضهما بشكل تخاطري، لكي نثبت خطأ ادعائهما سوف نطلب من كلٍّ منهما الدخول إلى متجر ألعاب مختلف عن الآخر، في اللحظة نفسها، وشراء لعبة “سيّارة”، شرط أن يخرجا من متجرَيْ الألعاب في كل مرة نُعيد فيها التجربة بسيّارة ذات لون مختلف عن بعضهما، إما حمراء وإما خضراء.
في تلك النقطة قد يخرج الطفلان في كل مرة بسيّارات ذات لون متعاكس بالفعل، لكنك سوف تسأل نفسك: ماذا لو كان كلٌّ من عبد الرحمن ورهف قد اتفقا قبل التجربة؟ ماذا لو كتبا قائمة طويلة، وأخفياها في جيب كلٍّ منهما، للحالات التي سوف يختارها كلٌّ منهما، فتختار رهف سيّارة حمراء في المرة الأولى للتجربة، وخضراء في الثانية والثالثة وحمراء في الرابعة، وهكذا، بينما يعرف عبد الرحمن أنه سوف يفعل العكس، وهكذا تستمر التجربة إلى أي عدد من المرات، هذه القائمة التي كتباها ووضع كلُّ منهما نسخة منها في جيبه، هي -بدرجة واسعة من التبسيط طبعا- “المتغيرات الخفية” التي قصدها أينشتاين.
رهف وعبد الرحمن هما جسيمان كموميان متشابكان، يفترض أينشتاين أن تلك الجسيمات لديها ما يشبه القائمة الخفية بكل الحالات الممكنة، لكن جون ستيوارت بيل (John Stewart Bell)، الفيزيائي الأميركي المجتهد، في الستينيات من القرن الفائت، كان قد تنبَّه لأن فكرة القائمة التي تحتوي على تلك المتغيرات الخفية غير ممكنة.
لفهم ذلك دعنا نغير قواعد اللعبة الخاصة بالطفلين. هذه المرة سنطلب منهما الدخول إلى متجرين لا يُقدِّمان سيارات فقط، بل يُقدِّمان سيارات أو طائرات أو سفن عشوائيا، بمعنى أن كلًّا من الطفلين سيدخل إلى متجر الألعاب الخاص به ويطلب لعبة، فيدخل البائع إلى غرفة مغلقة ومظلمة ليمسك بأول علبة تقابله، ويضعها أمام للطفل، العلبة فيها نسختان من اللعبة نفسها خضراء وحمراء، وعلى الطفلين أن يختارا بينهما بشروط جديدة:
أولا: يجب أن يخرجا من متجرَيْ الألعاب بلعبة ذات لون مختلف عن بعضهما، إما حمراء وإما خضراء.
ثانيا: لكن فقط في حال إذا خرجا بلعبتين متشابهتين، هنا يجب أن تكون اللعبتان باللون نفسه.
في تلك المرحلة تبدأ المشكلة، يمكن لكلٍّ من عبد الرحمن ورهف أن يكتبا قائمة سابقة تحدد لون اللعبة في كل مرة، لكن ماذا عن حالات تشابه اللعبة؟ في عيّنة عشوائية سيخرج الطفلان بلعبة متشابهة في ثلث الحالات فقط، بالتالي فإن عبد الرحمن ورهف يمكن أن يكونا على صواب عبر طريقة القائمة في ثلثَيْ الحالات فقط، وبالتبعية فإنه في حالة التخاطر يجب أن ينجح عبد الرحمن ورهف في الخروج بلعبة تتفق مع القاعدة الجديدة في أكثر من ثلثَيْ المرات (أي 66.6%) التي نكرر فيها التجربة.
ثلاثي نوبل
الآن لنقف قليلا ونتحدث عن الجسيمات، الطفلان هما جسيمان كموميان، أما لون اللعبة فهو اللف الخاص بكل جسيم، أما نوع اللعبة فهو الطريقة التي يمكن بها قياس هذا اللف، وبغض النظر عن الآلية الخاصة بالقياس واتجاهه، كل المطلوب أن تفهمه هو أن ذلك أمر يمكن أن ننوّعه عشوائيا! ومثل اللعبة السابقة، فإن “مبرهنة” (Bell’s theorem)، أو “متباينة بيل” (Bell’s inequality)، تقول إنه يمكن أن نُصمِّم مجموعة من التجارب، يختار الباحثون خلالها -كأصحاب المتاجر- عشوائيا بين اتجاهات القياس، وبالتالي إثبات أنه “لا يمكن لأي متغيرات خفية أن تتنبأ بنتائج النظرية الكمّية”.
يمكن تحقيق الانتقال الآني الكمّي عن طريق مشاركة حالة التشابك الكمي لعدد أكبر من الجسيمات.
على مدى السنوات التالية للمبرهنة، بداية من تجربة أول الحاصلين على نوبل هذا العام جون إف. كلاوسر عام 1972، اختُبِرت فرضية المتغيرات الخفية، وفي كل مرة كانت النتائج تؤكد أنه لا يوجد متغيرات خفية، لا يمكن للجسيمين أن يتفقا سابقا على شيء، ذلك لأن نتائج التوقعات تتجاوز الثلثين في كل مرة.
حتى حينما شكَّك بعض الباحثين في مبرهنة بيل ذاتها وافترضوا وجود نوع ما من التواصل عبر خداع الجسيمات لطرق قياس العلماء، تحت اسم “الفجوات” (Loopholes)، ظهرت تجارب تالية أكدت أن ذلك غير صحيح، منها تجارب رجل نوبل الثاني لهذا العام آلان أسبيه المركزية في الثمانينيات، وتجارب رجل نوبل الثالث أنطون زيلينغر في التسعينيات وما تلاها. خلال أكثر من 20 تجربة كبرى في هذا النطاق، آخرها كانت تجربة بيل الكبرى في 2018، التي سدت فجوة سُميت “الإرادة الحرة” باستخدام 100 ألف لاعب عشوائي للمشاركة في التجربة، ظهر أنه لا توجد متغيرات خفية، إنها فقط طبيعة عالم الكوانتم أن يكون بهذه الغرابة.
الثورة التي أحدثها فيزيائيو الكم في تلك الفترة من السبعينيات إلى الثمانينيات فتحت الباب لتطوير تقنيات جديدة مدهشة، حيث مثَّلت النواة للحواسيب الكمية، والتشفير الكمي الذي يمنع الاختراق، وغيرها من النطاقات التي أسهم فيها علماء نوبل لهذا العام، وعلى رأس هذه الثورة ظهر في التسعينيات زيلينغر بتجاربه في نطاق الانتقال الآني الكمي (Quantum teleportation)، وهي عملية تُنقل بواسطتها “معلومات كمية” (وليست معلومات عادية) من موقع إلى آخر باستخدام وسائط اتصال تقليدية بأسلوب التشابك الكمي الذي يشارك بين موقع الإرسال وموقع الاستلام، وهو نطاق واعد حاليا.
عالم الكوانتم
حسنا، حينما تُسد فجوات المتغيرات الخفية، فإن ميكانيكا الكم تضعنا أمام احتمالين فقط يفرضهما ما يسمى بـ”تفسير كوبنهاغن” لطبيعة العالم والكون من حولنا، فإما أننا نتدخل للتأثير في واقع الكون، فنُغيِّره في كل مرة ننظر إليه، وإما أن هناك علاقة لا يمكن إلى الآن تصوُّر طبيعتها بين الجسيمات المتشابكة كموميا، أو ربما كلاهما معا، ولفهم تلك الجمل الثقيلة السابقة دعنا نرجع إلى عالم الأمثلة.
إذا كان لدينا فقط برتقالة وتفاحة في غرفة ما، والجميع يعرف ذلك بمَن فيهم أنت، وبينما أنت مشغول بالحديث مع صديق لك، وضع أحدهم التفاحة في حقيبتك والبرتقالة في حقيبته، بعد ذلك سافرت إلى سيبيريا، وسافر هو إلى جنوب أفريقيا، حينما تصل سوف تفتح حقيبتك فترى التفاحة، هنا ستعرف على الفور أن حقيبة صديقك تحتوي على البرتقالة، ليس لأنك قد تسببت في ذلك بطريقة كمومية ما، ولكن لأن هناك “معلومة غير خفية” تقول إن كل ما لدينا هو تفاحة وبرتقالة فقط، فإذا أخذت أنا التفاحة أخذ هو البرتقالة بكل تأكيد، هذا هو ما يحدث في العالم الواقعي.
لكن لو كانت هاتان الثمرتان متشابكتين في عالم كمومي، فإن حقيبتك المغلقة لن تحمل واحدة فقط منهما، بل سوف تحمل كل الاحتمالات الممكنة معا، التفاحة والبرتقالة في آنٍ واحد، لفهم الفكرة دعنا نتأمل تجربة شرودنغر الفكرية الشهيرة، سنضع قطة في صندوق مغلق مع كمية صغيرة من مادة مشعة يُحتمل بمقدار 50% أن تتحلل ذرة منها خلال مدة محددة، إذا تحللت تلك الذرة فسوف تتسبب في عمل عداد غايغر الذي يقيس الإشعاع، هنا سوف يُفلت العداد مطرقة لتسقط على زجاجة السم فينتشر في المكان وتموت القطة.
الآن نقف أنا وأنت أمام ذلك الصندوق قبل أن نفتحه لنسأل: هل القطة حية أم ميتة؟ في تلك النقطة يتدخل تفسير كوبنهاغن لميكانيكا الكم للإجابة بـ: “كلتا الحالتين معا، حية وميتة”، لأن هذه الذرة ذات “موجة احتمالية” تصفها في كل الحالات؛ أي متحللة وغير متحللة في الوقت ذاته، أما حينما نفتح الصندوق فلن نجد أي مفاجآت، تكون القطة إما حية وإما ميتة، هذا هو ما يحدث حينما نحاول إدخال عملية قياس أو رصد لعالم الكوانتم، وذلك لأن الجسيم يفقد وضعه الكمومي العجيب -وضع توجد كل الحالات فيه معا (التراكب الكمي)- وينتقل إلى وضع ذاتي، أي حالة واحدة محددة.
أغرب من أغرب خيالاتك
مثل القطة (الحية/الميتة)، هناك حالة (التفاحة/البرتقالة)، حينما تفتح حقيبتك فترى التفاحة، فإن ذلك يعني أنك تدخَّلت للتأثير على الحالة الكمومية في الحقيبة فتغيرت إلى حالة عادية، كما أن ذلك يعني بالتبعية أنك ربما أثَّرت على الحالة الكمومية في الحقيبة الأخرى، ما يُشير إلى أنه قد أصبح لك تأثير على جسم يبتعد عنك آلاف الكيلومترات، وبشكل لحظي، وهو ما يتناقض مع ما سمَّاه أينشتاين بالواقعية المحلية (Local Realism).
الرصد أو التجربة في عالم أينشتاين يشبه إلى حدٍّ كبير أن نرصد مجرة بعيدة عبر تلسكوباتنا، لا يمكن أن تؤثر تلك التلسكوبات في المجرة التي ترصدها، أما في عالم الكوانتم فالتجربة تشبه تذوق قطعة كيك، حينما ترصد فأنت تتفاعل مع التجربة، يمكن فهم الأمر بتجربة ذهنية أخرى، سوف نتخيَّل أنك عالِم أنثروبولوجيا من جامعة عريقة، تود أن تسافر إلى منطقة أناتشيري في الغابات البوليفية المطيرة لتسكن مع شعب التشيماني، وهو مجموعة مكونة من 16 ألف شخص تسكن في قرى متفرقة، هدفك من تلك الرحلة هو دراسة طبيعة حياتهم.
ما أخطأ فيه ألبرت أينشتاين هو تصوُّر أنه يمكن جمع نظرية الكم بالواقعية المحلية في بوتقة واحدة، وهذا تحديدا هو ما أثبته الحاصلون على نوبل هذا العام حينما أكَّدوا مبرهنة جون ستيوارت بيل. (مواقع التواصل الاجتماعي)
حينما نسأل: هل تحصل بالفعل على نتيجة دقيقة من دراساتك؟ فإن الإجابة ستكون: “ليس بالضبط”، لأن هدفك سيكون دراسة نمط حياتهم النقي، بينما لم يعد نقيا بوجودك، لقد تأثروا بملابسك، وأحذيتك، والموسيقى التي تسمعها، وكاميراتك أنت وفريق العمل، وكل شيء آخر أدخلتموه لدراستهم، بالتالي تؤثر عملية الرصد الخاصة بك في واقع التجربة، هذا -بدرجة واسعة من التبسيط- هو ما نقابله في حالة الكوانتم.
تختلف الواقعية المحلية عن وجهة النظر الكمومية. في الواقعية المحلية كل شيء يمكن قياسه له قيمة محددة، سواء قمنا بالقياس أم لا، سواء فتحنا الصندوق أم لا، إذا لم تكن تنظر للقمر -كما قال أينشتاين ذات مرة- فإنك مرتاح لأنه موجود هناك بالشكل نفسه الذي اعتدت أن تراه به، لا في حالة كمومية تكون فيها كل أطواره موجودة معا مثلا! وإذا لم تكن تنظر للتفاحة، فأنت تعرف أنها تفاحة، وإذا لم تكن تنظر للقطة، فأنت تعرف أنها حية وآمنة وتأكل سمكة لذيذة الآن.
ولفهم أعمق للمشكلة التي تواجهنا إذا صحَّ هذا الافتراض، دعنا نتصوَّر أن لدينا صندوقين بكلٍّ منهما جسيم كمي مترابط مع الآخر، ويؤثر لف هذا الجسيم على قطة توجد إلى جواره داخل الصندوق، فيقتلها إن كان للأعلى أو تعيش إن كان للأسفل، أرسلنا صندوقا منهما إلى مجرة أخرى، وقررنا فتح الصندوق هنا، لو وجدنا القطة حية فسيعني ذلك حتما أننا لو فتحنا الصندوق الآخر فسنجدها ميتة، هنا يظهر السؤال المحير: هل أمكن لك أن تؤثر وأنت هنا في بيتك على قطة تبعد عنك تريليونات الكيلومترات لأنك فتحت الصندوق هنا؟
جون بيل مرة أخرى
أينشتاين إذن أخطأ، لكنه لم يخطئ تحديدا في رأيه بكون ميكانيكا الكم على صواب من عدمه أو أنها غير مكتملة، في الحقيقة نحن لا نعرف إن كانت ميكانيكا الكم على صواب أو على خطأ، ما أخطأ فيه ألبرت أينشتاين هو تصوُّر أنه يمكن جمع نظرية الكم بالواقعية المحلية في بوتقة واحدة، وهذا تحديدا هو ما أثبته الحاصلون على نوبل هذا العام حينما أكَّدوا مبرهنة جون ستيوارت بيل، الذي قال ذات مرة: “بالنسبة لي، المشكلة الحقيقية مع نظرية الكم هي التعارض الواضح بين معادلاتها الصارمة والنظرية النسبية، ربما لا يتطلب إجراء تركيب حقيقي بين النظريتين مجرد تطورات تقنية، بل تجديد جذري في المفاهيم”.
تلك هي عبقرية جون ستيوارت بيل إذن، فلقد تمكَّن من رسم الحد الفاصل بين النظرية الكمية والنظريات الكلاسيكية (بقيادة النسبية)، فتح ذلك الباب أمام الفيزيائيين النظريين فيما بعد لتطوير النظرية الكمية بصورة أوضح بعد استشفاف تلك النقطة الفاصلة، والنظر إلى اصطلاحات مثل عدم المحلية (Nonlocality) والتشابك الكمّي بصورة مختلفة ومحاولة استحداث مفاهيم جديدة لتحقيق فهم أفضل لها. لا تزال ميكانيكا الكم قادرة على إبهارنا يوما بعد يوم، ما زالت قادرة على دعوتنا للتشكك فيما قد نظن أنه مفهومنا عن الواقع، وذلك هو سر روعتها. قال ريتشارد فاينمان ذات مرة: “يُمكنني القول، وأنا مطمئن جدا، إنه لا أحد فهم ميكانيكا الكم” .