مقومات اضطراب عسر الحساب لدى أطفال مغاربة


 

مقومات اضطراب عسر الحساب لدى أطفال مغاربة


 نص المقال:

قد لا نجانب الصواب إن سلمنا بأن سيرورة اكتساب المعرفة الحسابية، إلى جانب معارف الكتابة والقراءة والتعبير، تشكل واحدة من المغامرات الكبرى التي يعيش الطفل بعض أطوارها حتى قبل ولوج المدرسة. فهذه المغامرة التي تترجمها قدرات هذا الأخير على التكميم في مراحله العمرية المبكرة هي التي ستستمر خلال مراحل التحاقه بمؤسسات التعليم الأولي، لتتواصل وتتطور على امتداد مختلف أسلاك مساره الدراسي. والثابت أيضا أن التمكن من هذه المعرفة لا يقتصر فقط على تحقيق النجاح الدراسي، بل يشكل عنصرا ضروريا للاندماج في مختلف مجالات الحياة العامة؛ فمن الصعوبة بمكان أن يحقق الإنسان هذه الغايات في معزل عن تَشَبُّعِه بالثقافة الرقمية وممارسته للأنشطة الحسابية، وذلك للتعبير عن الأوقات والأزمنة، المسافات والأمكنة، الكميات والأوزان، ثم القياسات والتقديرات… إلخ.

والأكيد أن عسر الحساب الذي يشكل أحد أنواع الاضطرابات العصبية النمائية كان ومازال يستأثر باهتمام كثير من الأوساط الأسرية والتربوية والصحية وعدد من الهيئات السياسية والمدنية والإعلامية، وذلك بفعل ما يسببه من صعوبات في تعلم المعارف الرياضية لدى عدد من الأطفال عبر العالم. وإن هذه الصعوبات التي عادة ما تستمر خلال فترة المراهقة ومرحلة الرشد أيضا قد تختلف من طفل لآخر حسب مصادر مسبباتها ودرجات حدتها ومستويات ديمومتها. وإذا كانت بعض هذه الأوساط والهيئات بدأت تهتم عندنا بعسر الحساب من خلال إنشاء مؤسسات وجمعيات غايتها التحسيس بأهمية الكشف المبكر لهذا الاضطراب، فإن ما يشي به واقع الحال هو أن محاولات تعامل مؤسسات التربية والتعليم ومراكز الاستشارة والتوجيه ومختبرات البحث والدراسة مع هذا الاضطراب تبقى جد محدودة، إذ باستثناء بعض الحملات الموسمية والتدخلات المناسباتية فالراجح أن هذا الأخير مازال خارج دائرة البحث العلمي الفعلي في أبعاده النفسية والعصبية والتربوية.

لا أحد ينكر إذن واقعة ضخامة الصعوبات التي يقع فيها بعض الأطفال المغاربة أثناء تعلم المعرفة الحسابية، رغم التضحيات الجسام لبعض الآباء، والجهود الحثيثة لعدد من المدرسين؛ ففي غياب أعراض أي إعاقة ذهنية أو عصبية أو جسدية لدى هؤلاء، وفي شغفهم بالتعلمات المدرسية وحصولهم على نقط جيدة في مختلف المواد، دليل واضح على أن المشكل يرتبط أساسا بمادة الرياضيات التي يواجهون في تعلمها صعوبات كثيرة، وخاصة على مستوى استيعاب أعدادها وقواعدها، وإنجاز مسائلها وعملياتها، ثم تحديد مواقع أرقامها ورموزها. وإذا كان الإشكال المطروح يتلخص في التساؤل حول أسباب تعثر هؤلاء في تعلم هذه المادة فالأكيد أن النجاح في تقديم حلول بهذا الخصوص لن يتحقق إلا من داخل التنصيص على قابلية أغلب الصعوبات التي يواجهونها للتشخيص والعلاج والتكفل، وبالتالي على أهمية برامج التدخل النفسي والعصبي والتربوي في هذا الإطار. فرغم ما عرفه الطلب الاجتماعي عندنا من تزايد على خدمات هذه البرامج فالملاحظ أن الخصاص على صعيد التقويم المبكر لاضطراب عسر الحساب يبقى ضخما وكبيرا. وأغلب الأخصائيين في علوم النفس والأعصاب- على قلّتهم – يعملون في بعض مستشفيات ومراكز الفحص والترويض، الأمر الذي يعني أن الممارسة المهنية لم تتمأسس بعد لتأخذ مكانها في المؤسسات والمرافق التي تحظى بوظيفة استقبال الأطفال عسيري الحساب في مراكز طبية ونفسية وتربوية متخصصة، وذلك بهدف الدعم والتوجيه والمساعدة.

إذا كان هذا الاضطراب يغطي ما بين 1% إلى 10% من الأطفال المتمدرسين عبر العالم فإن غياب الأرقام الرسمية لن يمنعنا من الافتراض بأن نسبته المتوسطة في المغرب لن تَقِلَّ من وجهة نظر توقعاتنا الشخصية عن 5%، وبالخصوص لدى الذكور أكثر من الإناث وخلال سنوات التعليم الأساسي؛ فهو مازال يشكل عندنا الموضوع البكر الذي يحتاج إلى كثير من الجهد العلمي والتدخُّل التطبيقي. فإذا كان تعريفه يتلخص في عجز واضح في تعلم المعرفة الرقمية وممارسة أنشطتها الحسابية المتنوعة فإن أنواعه تتمثل في عسر الحساب في مظاهره النمائية والمكانية والانتباهية والإجرائية، وفي أعراضه المتمثلة في صعوبات فهم الكميات والرموز العددية والتعامل مع القواعد والعمليات الحسابيّة؛ أما مصادره فتتراوح بين محددات رئيسية تعبر عنها من جهة المعرفيَّة الرقمية الخاصة وأساليب تعامل الطفل مع الأعداد ذاتها مع البحث عن الدلائل العصبية التي تؤكد ذلك باستخدام التصوير الدماغي، ومن جهة أخرى المعرفيَّة العامة ومختلف سيروراتها المعرفية ووظائفها التنفيذية المتضررة نتيجة قصور في اللغة أو في الذاكرة أو في الانتباه، وبين محددات ثانوية تعكسها أسباب إما نفسية – معرفية من قبيل بعض النقص في التحفيز والذكاء، وإما تربوية – لغوية مثل صعوبة تعليم الرياضيات وتعلُّمِها عبر استخدام اللغة، وإما عصبية – تكوينية مثل الخلل في بعض المواقع الدماغية المخصصة للكفاءة العددية. وهذا ما يعني أن الأسباب العميقة لعسر الحساب تبقى بعيدة عن أي تفسير يكون مردُّهُ التأخر الذهني أو القصور الوجداني أو الإعاقات السمعية والبصرية والحركية، أو الخصاص في الظروف التربوية والاجتماعية والاقتصادية.

وهذه مسألة لها ما يوضحها أولا في مقاربات عسر الحساب التي تتسلسل من المقاربة التشريحية –السريرية التي تؤكد على الأسباب العصبية لتفسير آليات وأسباب هذا الاضطراب، والمقاربة النفسية العصبية التي تتبنى الأسلوب المعرفي لتشخيص مجمل أعراضه ومكوناته، ثم المقاربة المعرفية المكانية التي تعتبر البعد المكاني كتفسير من بين تفسيرات أخرى لهذا الاضطراب؛ وثانيا في نماذج تفسير أسباب هذا الاضطراب، التي تترجمها مجموعة من القدرات والوظائف المعرفية العامة والخاصة التي نفضل إجمالها في ثلاث فرضيات أساسية: قوام أولاها وجود أساس وراثي لهذا الاضطراب ولمختلف صعوبات التعلم التي تصاحبه، ومفاد ثانيتها وجود عجز خاص في الإنجاز الحسابي الذي يغذِّي المناطق المسؤولة عن المعرفة الرقمية في الشق الجداري الخلفي، ومؤدى ثالثتها وجود عجز عام تدعمه نتائج الأداء الحسابي الذي عادة ما يعمل على تنشيط مناطق مختلفة من الدماغ، بما فيها المناطق المسؤولة عن المعرفة الرقمية.

وفي السياق نفسه تجدر الإشارة إلى أنه إذا كان يقصد بهذا الاضطراب جملة المشاكل المرتبطة بتعلم التفكير الرياضي عامة، فإن أهم مقوماته التشخيصية والإكلينيكية عادة ما تعكسها صعوبات مستديمة في تعلم الكفايات الحسابية وتوظيفها منذ سنوات التعليم الأولى، بحيث إن إنجازات الطفل عسير الحساب التي تقل في العادة عن المتوسط بالنسبة لسنه الزمني لا تعود إلى إعاقة ذهنية ولا إلى تأخر نمائي عام ولا إلى اضطراب في الحدّة البصرية أو السمعية، ولا إلى اضطرابات عصبية أو حركية. والأكيد أن التشخيص النموذجي لهذا الاضطراب عادة ما يراهن على إجراء تقييم نفسي عصبي شامل، وذلك بهدف بناء خطة علاجية تستهدف صعوبات تعلم الحساب لحالة فردية بعينها، يشرف عليها فريق عمل متعدد التخصصات.

في الخلاصة، نرى ضرورة التنبيه إلى أنه إذا كان من الصعب القول حاليا بالعلاج الكامل لاضطراب عسر الحساب الذي غالبا ما تكون انعكاساته سلبية على المسار الدراسي والاندماج الاجتماعي لكثير من الأطفال عبر العالم، بمن فيهم أطفال مغاربة، فإن الإقرار بإمكانية التخفيف من أعراضه وسلبياته يعتبر من الحقائق الممكنة والمقبولة. فقد صار في باب المؤكد أن الأطفال عسيري الحساب الذين يستفيدون من برامج علاجية مبكرة وجيِّدة يمكنهم مواصلة مسارهم الدراسي ومشوارهم الحياتي العام بشكل طبيعي. وقد ثبت أن تفعيل تلك البرامج على أرض الواقع يقتضي إشراك الآباء والمدرسين والأخصائيين، وذلك باعتماد نوعين من الخطط:

الأول عبارة عن خطط وقائية استباقية، قوامها تحسيس الآباء والمدرسين وتوعيتهم بأساليب مساعدة الطفل عسير الحساب في وقت مبكر على تجويد أنشطته الرياضية، عبر التخفيف من صعوبات تعلمها واكتسابها. فعلى هؤلاء أن يقتنعوا بأن عددا من الأطفال يفتقدون القدرة الكافية لتعلم هذه الأنشطة، وبالتالي فبدل الاسترسال في مواجهتهم بمهام تظهر عجزهم وفشلهم يستحسن اعتماد طرق بديلة لتلقينهم الأنشطة الحسابية التي تغذِّيها إجراءات التحفيز والتشجيع والمواكبة.

الثاني عبارة عن خطط للتدخل والعلاج، غايتها التخفيف من حدة أعراض اضطراب عسر الحساب وصعوبات التعلم المصاحبة. فعلى الرغم من محدودية الحلول المناسبة والممكنة فقد ثبت أن الكشف المبكر لتلك الأعراض والصعوبات غالبا ما يساعد على تجاوز حدتها أو التخفيف منها عبر التشخيص والتأهيل. وهذه مسألة يمكن إجمال أهم أساليبها التَدَخُّلِيَّة في الإجراءات التالية:

– تطوير مهارات الطفل المعرفية اللازمة لتعلم الحساب، وخصوصا تلك المتعلقة بتسمية الكميات واستخدام الرموز العددية، وعَدِّ الأشياء والموضوعات ومقارنتها وإدراك معانيها.

– التدرج في تعليم المفاهيم الرياضية للطفل عسير الحساب مما هو محسوس باستخدام أشياء حقيقية، إلى ما هو شبه – محسوس عبر تمثيل الأشياء الحقيقة برسوم أو رموز، إلى ما هو مجرد باستعمال الأرقام بدلا من الرسوم أو الرموز.

– إعطاء الأولوية في تعليم مفاهيم الرياضيات والقواعد الحسابية للطفل عسير الحساب لمهارات حل المشكلات وإجراءات المقارنة والتحويل والتعميم والتجريد.

– تحفيز الطفل عسير الحساب على تطوير اتجاهات إيجابية إزاء الأنشطة الحسابية، وذلك بإشراكه في مناقشة الأهداف الأساسية من تعلم الرياضيات وعلاقة كل ذلك بالحياة اليومية.

– إنصاف الطفل عسير الحساب من خلال دعمه أسريا ومدرسيا والإقرار بحقه في التعلم الذي يتماشى مع مؤهلاته الشخصية وكفاءاته الرياضية، بعيدا عن الحيف الذي عادة ما يطاله بفعل نعوت العجز والفشل والدونية وغيرها

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال