الغالي أحرشاو يسائل الوظيفة الثقافية للمدرسة المغربية(مقال)


 

الغالي أحرشاو يسائل الوظيفة الثقافية للمدرسة المغربية(مقال)


قال الكاتب والسيكولوجي الغالي أحرشاو: “إذا كان نجاح الفعل التربوي في نقل الثقافة ونشرها يتوقف على مستوى رضا المدرِّسين على ما يُدَرِّسونه، وعلى اعتراف المتمدرسين بقيمة ما يُدَرَّسُ لهم، فإن التشكيك في القيمة الثقافية لمضامين هذا الفعل وأدواته عادة ما يمثل المبرر الواقعي لبعض ردود الأفعال والسلوكات الغاضبة لدى كل من المدرِّسين والمتمدرسين”.

وحاول أحرشاو في مقال له بعنوان “ملامح الوظيفة الثقافية للمدرسة بالمغرب”، الإجابة عن سؤال “إلى أي حد يمكن الحديث في مغرب اليوم عن منظومة تربوية تشكل في نفس الوقت خطابا بيداغوجيا وممارسة ثقافية ثم تجربة إنسانية؟”، من خلال التفصيل في نقطتين؛ أولاهما تتعلق بالمقومات الكونية لعضوية علاقة التربية بالثقافة، والثانية مرتبطة بالفعل التربوي الذي يوظفه المدرسون لتعريف المتمدرسين بثقافة الماضي ودمجهم في ثقافة الحاضر.

وأشار الكاتب إلى أن “النجاح في تخفيف المعضلات عبر بناء ثقافة مدرسية متماسكة وقادرة على ترجمة عضوية علاقة التربية بالثقافة وتمفصلاتها الحقيقية بالمغرب، يبقى مشروطا بمدى فعالية الإصلاحات التربوية المعتمدة لحد الآن في مواجهة التحديات وتجاوز الإكراهات التي تعكسها ثلاث قضايا أساسية”


هذا نص المقال:

لا جدال في أن وظيفة المدرسة في نقل الثقافة وحفظها كانت وما تزال تمثل إحدى الإشكاليات التربوية الخصبة والشائكة التي ترتبط في الآن نفسه بعمق محتوى العملية التعليمية وبجوهر هوية المدرِّسين والمتمدرسين. فإذا كان نجاح الفعل التربوي في نقل الثقافة ونشرها يتوقف على مستوى رضا المدرِّسين على ما يُدَرِّسونه، وعلى اعتراف المتمدرسين بقيمة ما يُدَرَّسُ لهم، فإن التشكيك في القيمة الثقافية لمضامين هذا الفعل وأدواته عادة ما يمثل المبرر الواقعي لبعض ردود الأفعال والسلوكات الغاضبة لدى كل من المدرِّسين والمتمدرسين. والأكيد أن مصوغات هذا التشكيك غالبا ما تتكاثر في سياق الإضرابات والأزمات التي تخيم من حين لآخر على النظام التعليمي بالمغرب، وتشكل بالتالي الفرصة السانحة للقيام بالإصلاحات التربوية التي يصعب معها التكهن بالشيء الذي يستحق فعلا أن يُدَرَّس باسم نقل الثقافة والحفاظ على توهُّجها واستمراريتها.

الراجح إذن أن تأمَّل التجارب الإصلاحية المختلفة التي عرفها النظام التعليمي بالمغرب منذ سبعينات القرن الماضي يشي بأن هواجس الإجرائية والأداتية وخطابات التكيف والنَّفْعية الآنية هي التي تؤطر مكوناته وتوجه أهدافه، في حين إن مسألة الأبعاد والرهانات الثقافية لذلك النظام تبدو إما محاصرة وإما مستبعدة بدرجة كبيرة. وهكذا ففي الوقت الذي تشكل فيه الثقافة القضية التي لا يمكن للفعل التربوي أن يهملها أو يتخلى عنها، لأنها هي التي تكوِّن المبرر الفعلي لوجوده وممارسته على أرض الواقع، فإن السؤال المطروح يتعلق بحقيقة المدلول الثقافي لهذا الفعل في ظل التحديات التربوية والثقافية التي تواجهه، وبالتالي إلى أي حد يمكن الحديث في مغرب اليوم عن منظومة تربوية تشكل في نفس الوقت خطابا بيداغوجيا وممارسة ثقافية ثم تجربة إنسانية؟ وهو السؤال الذي تستدعي الإجابة عنه استحضار نقطتين رئيسيتين:

ترتبط أولاهما بالمقومات الكونية لعضوية علاقة التربية بالثقافة؛ إذ إنه إذا كانت الثقافة تشكل نسقا من التقاليد والقواعد التي يوظفها الفرد في إدارة سلوكياته وتنظيم علاقاته، وتمثل بالتالي المحتوى المادي للتربية والمبرر الواقعي لوجودها، فإن التربية تشكل في المقابل الأداة البيداغوجية الأساسية لنقل الثقافة وحفظها كذاكرة إنسانية عبر تنشئة الأفراد وتربيتهم وتلقينهم المعارف المتراكمة والأدوات الفكرية والأنساق الرمزية والأعمال الخالدة.

وتتعلق ثانيتهما بالفعل التربوي الذي يوظفه المدرسون لتعريف المتمدرسين بثقافة الماضي ودمجهم في ثقافة الحاضر. بمعنى الفعل البيداغوجي الوسائطي الذي يستهدف في وضعٍ أوّلَ نقلَ ثقافة الماضي وصيانتها عبر برامج ومناهج تعليمية لا تزال للأسف تكتفي عندنا وفي أقصى الحالات بتلقين المتمدرسين بعض عناصرها الثقافية الجزئية والبسيطة؛ بحيث إن ظواهر الغش والفساد والكذب والعنف والتحرش والتطرف التي تمارس على شكل أنشطة يومية داخل المجتمع المغربي نادرا ما يتم التنصيص عليها أو الاهتمام بها. وهكذا، فإن ما يُدَرّس في مدارسنا باسم الثقافة لا يمثل في حقيقة الأمر الثقافة المطابقة لواقع المجتمع وذاكرته الثقافية، لكونه لا يتجاوز حدود ذلك الطيف الضيق من الثقافة المغربية الشاملة. فالأمر لا يتعدى التركيز على نوع من “الثقافة المفبركة” باعتماد مبادئ للانتقاء والنقل وإعادة البناء تبعا للأساليب البيداغوجية والتدريسية التي توظفها المؤسسة التعليمية.

أما في وضع ثان، فإن ذلك الفعل البيداغوجي يراهن على نقل ثقافة الحاضر للأجيال الصاعدة عبر تلقينهم المعارف وتربيتهم على قيم المسؤولية والمواطنة ومهارة الحياة. فالمُدَرِّس الذي يمثل الوسيط المباشر لنقل ثقافة الماضي، يصبح مطالبا أيضا بأن يقوم بدور الفاعل الثقافي المنخرط بقوة في ثقافة عصره. لكن أين يتموقع المدرِّس داخل زخم التفريخ الثقافي الذي يشهده المجتمع المغربي المعاصر؟ ما هي علاقة ثقافاته الشخصية والمهنية والمدرسية بثقافات المتمدرسين والكتب والعلوم، وتكنولوجيات التواصل والصور، وأساليب الاستهلاك والموضة، ثم سلوكيات الكذب والغش والفساد والعنف؟

إذا كانت هذه الأسئلة تمثل جانبا من التحدي الرئيسي الذي واجه ويواجه مشاريع إصلاح أنظمة التربية والتكوين بالمغرب منذ أربعة عقود مضت، فإن توضيح ذلك يستدعي التأكيد على فكرة أن تأمل الوظيفة الثقافية للمدرسة الحالية يفضي إلى الإقرار بالوضعية الحرجة التي أصبحت تتخبط فيها. ففي الوقت الذي تعاني فيه من تعددية النماذج الثقافية التقليدية والحديثة، ومن تنوع الوظائف الثقافية الموزعة بين التكوين الثقافي والنقل الثقافي والتعليم الثقافي، نجدها تتخبط في وضعية حرجة وسط زوبعة من الانتظارات الثقافية المتنافرة والإصلاحات التربوية المتذبذبة التي تعكسها مظاهر الحيرة والمحدودية في تجسيد الثقافة المدرسية المأمولة، وذلك بفعل تواضع مضامين وأهداف البرامج والمناهج، وتباين ثقافات المدرسين والمتمدرسين، وتعدد المصادر الثقافية ووسائط التدريس، ثم تنوع الموضوعات والقضايا التربوية المستهدفة.

الأكيد أن النجاح في التخفيف من هذه المعضلات عبر بناء ثقافة مدرسية متماسكة وقادرة على ترجمة عضوية علاقة التربية بالثقافة وتمفصلاتها الحقيقية بالمغرب، يبقى مشروطا بمدى فعالية الإصلاحات التربوية المعتمدة لحد الآن في مواجهة التحديات وتجاوز الإكراهات التي تعكسها ثلاث قضايا أساسية:

قوام أولاها أن الإصلاحات التربوية المعتمدة، ورغم استهدافها تطوير ثقافة المدرسة عبر تجويد البرامج والمناهج والطرق، لم تنجح حتى الآن في تحقيق المبتغى الثقافي أمام الانفجارية التي يعيشها الفضاء الثقافي المغربي الحالي. لذا، أصبح من الضروري العمل بالنظام التعليمي الذي وإن كان لا يتهاون في ترسيخ دعائم خصوصيته عبر الإقرار بالانتقائية والتعددية الثقافية، فهو لا يقبل بِفَصْلِ أنظمة تفكيره وأنساق معارفه وقيَّمه عن أنظمته التربوية ووسائطه التعليمية.

مفاد ثانيتها استغلال الثقافة المهنية للمدرِّسين في التأثير المباشر على تفاعلاتهم مع المتمدرسين. ففضلا عن معانيها القانونية والتربوية والتكنولوجية، فإن مهنة التعليم يجب أن تشكل أيضا مسألة ثقافية في عمقها، وبالتالي أن تستدعي تعديلا وتطويرا للثقافة الجماعية للمدرِّسين التي لم يبخل النموذج التنموي الجديد بالتنصيص عليها والترويج لها، وخاصة على صعيد الحاجة إلى التكوين المستمر والتدبير الجيد لمضامين الفعل التعليمي وممارساته.

مؤدى ثالثتها العمل على إعادة طرح إشكالية علاقة المنظومة التربوية بالتعددية الثقافية وفق منظور واسع وشامل، قوامه تجويد برامج ومناهج إعداد مدرسين أكفاء علميا وبيداغوجيا وثقافيا، وقادرين على العطاء السخي في ظل هذا التفريخ الثقافي الهائل وهذا التعدد الوافر في السياقات الثقافية للمجتمع المغربي.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال